وقفة مع وصية “عليك يا مختار…”
قال الشيخ الخديم ـ رضي الله عنه ـ موصيا أحد مريديه:[من الرجز]
عَلَيْكَ يَا مُخْتَارُ بِاجْتِهَادِ = فِي كُلِّ سَاعَةٍ عَلَى الرَّشَادِ
وَلَازِمِ التَّقْوَى وَرُمْ تَعَلُّمَا = وَلَا تُكَثِّرْ لَعِبًا فَتَنْدَمَا
وَاصْبِرْ عَلَى الْبَلَاءِ وَالتَّخَدُّدِ = وَدُمْ عَلَى السُّكُوتِ وَالتَّجَلُّدِ
إِنْ تَجْتَهِدْ فِي الْعِلْمِ وَقْتَ صِغَرِكْ = تَنَلْ مَقَاصِدَكَ وَقْتَ كِبَرِكْ
وَلَسْتَ تَحْتَوِي أَخِي الْـمَزَايَا = مَا لَـمْ تُدِمْ صَبْرًا عَلَى الرَّزَايَا
صَبْرًا جَمِيلًا لَا تَكُنْ كَسُولَا = إِنَّ الْكَسُولَ لَا يَسُودُ الْجِيلَا
وَنَاءِ كُلَّ مَا نَهَى الْجَلِيلُ = وَثِقْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ
وَلَا تُصَاحِبْ غَيْرَ مَنْ يُرْشِدُكَا = وَنَاءِ كُلَّ صَاحِبٍ يُهْلِكُكَا
إِذْ رُبَّ غُمْرٍ قَدْ غَدَا نَبِيلَا = بِصُحْبَةِ الصَّالِحِ لَا تَمِيلَا
وَرُبَّ صَالِحٍ غَدَا ذَلِيلَا = بِصُحْبَةِ الْأَحْمَقِ ذَرْ جَهُولَا
كُنْ مُتَوَكِّلًا عَلَى الرَّحْمَانِ = فِي كُلِّ وَقْتٍ يَا فَتَى الدَّيْمَانِي
* * *
دأب العبدُ الخديمُ ـ رضي الله عنه ـ على نصح الوافدين إليه وهدايتهم إلى الصّراط المستقيم، وكان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويدعوهم إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن ذلك هذه الوصية المختصرة النافعة التي وصى بها أحد الديمانيِّين(1) الذين كان يحبهم حباًّ جمًّا ويكنُّ لهم احترامًا خاصًّا، لنُبلهم وفضلهم ومسابقتهم إلى الخيرات، ومنهم المختار الديماني، الذي كان من المتعلقين بأذياله ـ رضي الله عنه ـ والمتمسّكين بأهدابه(2).
لقد ندبَ العبد الخديم ـ رضي الله عنه ـ المختار الديماني بادئَ بدءٍ إلى بذل الجهد والتّشمّر عن ساعد الجدّ، والتّوقُّل في معارج المجد، بمعنى أن يرفع همّته إلى رفيع المراتب، ويهوءَ بنفسه إلى شريف المطالب، إذ لا سبيل إلى تسوُّرِ شرفات المعالي إلا بتحمل المشقة ومكابدة الليالي. ثم نَدَبَهُ إلى طلب الرّشاد والشدّ عليه يَدَ الضّنين، والرَّشَادُ خلاف الغيِّ، ومعناهُ: إِطاعة الله ورسوله في الأقوال والأفعال والأحوال؛ فَـ«مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشِدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى».
وبعد ذلك يعرّج ـ رحمه الله ـ إلى تفصيل ما أجمله، كاشفاً له القناعَ عن السبيل الذي يهدي إلى الرَّشاد، فيوصيه بملازمة التقوى، أي: بامتثالِ الأوامرِ التي تقود إلى الجنة التي وعد المتقون، واجتنابِ النَّواهِي التي تسوق إلى النار التي وقودها الناس والحجارة.
ولما كان الامتثال والاجتناب لا يحصلان إلا بمعرفة المأمور به والمنهيّ عنه وصّى ـ رحمه الله ـ الفتى الديمانيَّ إلى طلب العلم والمسارعة إليه قبل مباغتة الهموم والأشغال؛ فمن تعلّم وقت صغره، استراح وقت كبره، كما يحذّره من صرف الأوقات إلى اللهو واللعب، وتضييعها في الفضول وما لا يعني، لأن من أعنق إلى الهوى قرع سنّ الندم، وذاق وبال تفريطه وتقصيره.
ثم يحثه ـ رحمه الله ـ على ملازمة الصبر، بأن يكون جَلْداً عند المصائب، رابط الجأش عند النوائب، غير متضعضع لما يصيبه من البلايا والمتاعب، مُبَيِّنًا له أن ذروة المجد لا يَتَسَنَّمُهَا إلا صبورٌ، خطير النفس، فمن صبر على الرزايا ظفر بالمزايا، وانقلبت مِحَنُهُ مِنَحًا، كما يحثه على مداومة السُّكوت، بأن يقول خيراً أو ليَصمُتْ، إذ لا يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ.
ويحضّ الشيخُ ـ رضي الله عنه ـ الفتى الديمانيّ على ملازمة الصبر ـ وكرَّر ذلك تَفهيماً وَتَقريراً ـ، ويحذِّرهُ مغبّةَ الكسل والإخلاد إلى الدعة والراحة، وكذلك يدعوه ـ من باب ذكر الخاص بعد العام لزيادةِ الاهتمام ـ إلى ترك كل ما نهى الله عنه، وإلى اقتفاء سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والعضِّ عليها بالنَّواجذ، والازوِرار عن المحدَثاتِ، لأَنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ.
ولم يَغْبَ ـ رضي الله عنه ـ عن حضِّه على الصّحبة الصالحة التي تهديه إلى سبيل الرشاد، بأن يُخَادِنَ أحسن الناس أخلاقاً وأسدّهم رأياً وأكملهم ديناً، ويفرَّ ـ كفراره من الأسد ـ من الدّنيء والأحمق واللئيم؛ إذ كم من شخص صار بمخادنة الأخيار في علِّيين، وآخر تردّى بمخادَنة الأشرار في الحضيض الأسفل!
ويختم العبدُ الخديم ـ رضي الله عنه ـ وصيته بدعوته إلى إدمان التَّوكّل، بأن ينيب إلى الله ويفوض أموره إليه، ويتخذه وكيلًا ومَوْلًى وَنصيرًا، مع مجانبة التواكل والالتفات إلى الخلق، لأنهم لا يملكون نَفْعاً ولا ضَرًّا، ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نُشوراً.
وهذه الأبيات هي ما أوصى به العبدُ الخديم ـ رضي الله عنه ـ النَّشْءَ والمختار الديمانيَّ، فهي مع اختصارها حصنٌ حصينٌ لكلِّ مَنْ عضّ عليهِ بالنّواجذ، كما أن فيه حَفْزًا لكل من تسمو نفسه إلى رفيع المراتب، بأن يثبتوا على الرشاد ويجتهدوا في تحصيل العلم، مع المسارعة إلى الخيرات، والاستعانة في ذلك كله على الله والتوكل عليه حق التّوكل.
——————————————-
الهوامش:
(1) الديمانيون:من القبائل الموريتانية
(2) أخبرني بذلك الشيخ محمد المرتضى بوسو.
أبو مدين شعيب تياو الأزهري الطوبوي
25 جمادى الأولى 1436هـ//16 مارس 2015م
تطوان/المغرب
0 التعليقات :
إرسال تعليق